المبحث الثالث من دراسة (الخطاب الإسلامي بين الواقع والمأمول):
المأمول في الخطاب الإسلامي المعاصر:
هناك أمور يؤمّل أن توجد في الخطاب الإسلامي المعاصر حتى يستطيع الوصول إلى القلوب والنفاذ إلى العقول.
وقد ذكرت في المبحث السابق في صور الضعف في الخطاب الإسلامي المعاصر ما يشير إلى ما يراد ويؤمل من صور القوة لكني سأورد ما لم أذكره هنالك أو أني ذكرته بإشارة سريعة، فمن الأمور التي تؤمل في الخطاب الإسلامي المعاصر ما يلي:
1. الإخلاص وتحرير الولاء لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
إن إخلاص المخاطب لله تعالى، واتباعه لسنة سيد البشر صلى الله عليه وسلم وتحرير الولاء في خطابه إن كل ذلك كفيل إن شاء الله تعالى بزرع الثقة في المخاطب، وأنه لا يبتغي من وراء خطابه إلا المصلحة العليا لهذا الدين العظيم، وجعله واقعاً في دنيا الناس.
والإخلاص جابر لكسر الضعف، فكم من شخص يعتور خطابه جملة من النقائص في الوسائل والآليات والمباني والمعاني لكن ذلك الخطاب نفذ إلى القلوب وساغ في العقول، وما ذاك إلا لإخلاص صاحبه وحرارة خطابه، وتحرقه فيما يريد إبلاغه.
وتحرير الولاء لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم يُؤوي المرء إلى ركن شديد، ويعينه ويأخذ بيده، ذلك أنه شرع في خطابه. وفي ذهنه تأييد شرع الله تعالى والحفاظ على دينه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فها هنا يقبل خطابه السواد الأعظم من الناس، ولا يختلف عليه في مضامينه، فليحرص المخاطبون للناس على صنع هذا والاهتمام به.
2. القوة في الطرح:
ما لم يكن الخطاب الإسلامي قوياً في طرحه فإنه سيراوح مكانه أو سيتقدم تقدماً قليلاً؛ وذلك لأنه يواجه آلة إعلامية جبارة معقدة قوية كاسحة، غير محدودة بحد مادي أو خلقي.
فالواجب على المخاطبين الأخذ بأسباب القوة إذاً، والله تعالى قد قال: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة"، ورسولنا صلى الله عليه وسلم قد قال: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير"، ومن وجوه القوة في الطرح ما يلي:
أ. تدريب المخاطبين على كيفيات الخطاب ووسائله:
فهذا ـ اليوم ـ صار علماً يُدرس، فما لم نأخذ بأسبابه قعدنا عن إدراك غيرنا بَلْهَ مجاراته.
ب.التوثيق والضبط العلمي:
وذلك حتى ينال المخاطب احترام الآخرين ويستطيع إقناعهم، فبعض المخاطبين يرسلون النِسَب إرسالاً غير قائم على إحصاءات دقيقة، وبعضهم يردد نسباً قديمة وإحصاءات أصبحت غير مقبولة، وبعضهم يطلق أقوالاً يُعْوِزها التوثيق.
فتوثيق المادة المطروقة، وإرجاع الأقوال إلى قائليها، والاستشهاد بالاحصاءات المنضبطة، والربط بين المقدمات والنتائج ربطاً مناسباً محكماً، والبعد عن الأقوال الضعيفة والشاذة كل ذلك سبيل لإقناع المخاطب.
أعرف جماعة من الناس فيهم لطف وتواضع ورقّة ودماثة ولين جانب وخفض جناح لكني كلما قعدت لأسمع خطابهم شعرت أن بينهم وبيني حجاباً أو حاجزاً بسبب ما يعتور خطابهم من ضعف كبير وهشاشة في المبنى والمعنى، وربما كان خطابهم مقنعاً للعامة أو لبعضهم لكن الخاصة الذين بيدهم ـ بعد أمر الله تعالى ـ مقاليد التغيير لا يمكن أن يعجبهم مثل هذا الخطاب أو يقتنعوا به.
ج.العلاج العميق لأمراض المسلمين:
إن الخطاب الإسلامي ينبغي أن ينفذ إلى أعماق المشكلة ويخرج بحلول لها قائمة على دراسات قوية، فإن بقاء الخطاب الإسلامي " في إطار تعميمات ثقافية إسلامية عامة وعدم الاهتمام بالدراسات الأصولية العميقة التي تظهر مرونة الشريعة وتجدد الفقه، وإهمال دراسة طبيعة العصر وثقافته وتجدد الفكر والحياة فيه.
والبعد عن إدراك المنهج الشامل لحركة التغيير الاجتماعي في الإسلام حرمه من وضع فكر المراحل المتتابعة في ضوء تغييرات الحياة وبروز المشاكل المتجددة والهموم المتنوعة ... وهذا المرض الخطير لا يزال سارياً إلى الآن" .
وهذا النقل وإن كان قديماً فله الآن ربع قرن تقريباً إلا أنه ما زال صادقاً في وصف حال كثير من أنواع الخطاب الإسلامي.
د. عدم تكرار خطاب الماضي، والاستفادة من جوانب القوة فيه:
هناك خطاب إسلامي قديم متميز، وتراث رائع كان صالحاً في زمنه إلا أن بعضه لم يعد صالحاً الآن في بعض جوانبه أو كلها، فمثلاً كان هناك خطاب مفند للماركسية وقد انتهت الآن، وخطاب مقاوم للشيوعية.
وقد هلكت وذهبت ريحها ولله الحمد، وكان هناك خطاب يحاول حل بعض مشكلات المسلمين التي كانت قائمة آنذاك ولم يعد لها وجود الآن أو أن عموم ذلك الخطاب لم يعد صالحاً لحل ما طرأ من تعقيدات في عالم اليوم، فإن خطاب الأمس كان ينادي بإقامة الاقتصاد على أسس إسلامية.
وكذلك الإعلام والسياسة وأحوال المجتمعات، ويحث على حجاب النساء ويحاول أن يثبت للعالم مصداقية مطالباته وارتكازها على أسس صحيحة من الشرع والعقل، بينما اليوم لم يعد ذلك الحال القديم قائماً.
وارتقى العالم الإسلامي في سلم الحضارة الإسلامية والمادية درجات عديدة، فالخطاب القديم لم يعد صالحاً للاستشهاد به اليوم في جوانب عديدة منه.
ثم إن المسلمين قد اكتسبوا خبرة طويلة في القضايا السياسية والفقهية والإعلامية والاقتصادية والاجتماعية، وقطعوا أميالاً كثيرة من مشوار الألف ميل، فلا يصلح أن يخاطبوا بمثل أو قريب من خطابهم قبل أن يكتسبوا ما اكتسبوه.
لذلك كان لا بد من إعادة النظر في الخطاب الإسلامي القديم نسبياً، وتقوية جوانب الضعف فيه، والاستفادة من جوانب القوة حتى يكون خطابنا اليوم صالحاً للعصر.
3. معرفة الآخر:
إن معرفة حال المخاطبين الآخرين ـ والمقصود به ها هنا غير المسلمين ـ أمر مهم جداً في هذا الزمن الذي اشتدت فيه الحاجة إلى خطابهم، وخطابهم واجب شرعي أيضاً، ومن المهمات في مسألة معرفة الآخر ما يلي:
أ. تحرير الفرق بين علوم الكفار ومنجزاتهم المادية:
لابد من معرفة الفارق الواضح بين التقدم الذي حازه كثير منهم في المنتجات الحضارية والمادية، وبين التردي الظاهر في كثير من جوانب العلوم والمعارف الإنسانية، وهذا إضافة إلى معرفة كفرهم وضلالهم، وذلك لأن الخلط بين الأمرين بأخذهما معاً أو بتركهما معاً خلط وخبط، والتفرقة بينهما واجبة، وأحسب أن هذا أمر انتهى وحسم من حيث التنظير منذ مدة طويلة لكن يعتوره أمران:
الأول: بعض القائمين على الخطاب الإسلامي لم تُحسم هذه المسألة في ذهنه بعد في شقيها المذكورين آنفاً فتجده يرفض الاثنين أو يقبلهما معاً بتأولات وتمحلات ظاهرة.
الآخر: أن هذا التفريق وتلك المعرفة ما زالتا أمراً نظرياً لا يثبت عند التطبيق عند بعض القائمين على الخطاب الإسلامي، ولذلك نبهت عليها ها هنا.
ب. الضبابية التي في أذهان الكفار وتمنعهم من فهم الإسلام والمسلمين:
إن معرفة المخاطب لهؤلاء ما هم عليه من سوء فهم للإسلام والمسلمين، واتهامهم لهم بشتى أنواع التهم في القديم والحديث، إن معرفة هذا معين على إحسان خطابهم وتجويده.
وهناك اليوم مصطلحات يرددها الكفار يتهمون بها هذا الدين العظيم وأهله مثل الإرهاب، وانتهاك حقوق الإنسان خاصة المرأة، والرق.
وعدم العدل في توزيع التركات، وانتشار الإسلام بالسيف، إلى آخر هذه التهم، التي تفتقر -في بعض الأحيان- إلى رد منطقي بخطاب يلفه الحكمة والتعقل وعرض الإسلام كما هو من غير تأويل ولا تعسف.
ج. الحذر من التنازلات في الخطاب للآخرين:
المغلوب دوماً تبع للغالب، ولما كان الكفار قد غلبونا في هذا العصر تقنياً وعلمياً ووسائل إنتاج فقد انبهر بهم كثير من المسلمين.
وتبع ذلك الانبهار خطأ وخطل في فهم العلاقة التي بيننا وبينهم وهي أن لنا العزة دوماً وإن تخلفنا عنهم في الميادين المذكورة آنفاً، وأنتج ذلك الخطأ في الفهم جملة من الأخطاء منها ضعف الخطاب الموجه لهم في قضية فهم هذا الدين.
وذلك لأن نفراً من مفكرينا وعلمائنا ودعاتنا إذا خاطبوا الغرب انقلبوا إلى تبريريين واعتذاريين، فالجهاد في الإسلام عندهم للدفاع فقط وليس هناك جهاد طلب، والمعجزات كلها أو بعضها تؤول عندهم حتى توافق العقل الغربي.
وهناك حوادث في تاريخ الإسلام لا تتوافق والمنظومة القيمية عند الغرب فيسارع هؤلاء إلى نفيها وإنكارها أو تأويلها تأويلاً غير مستساغ، وهناك بعض القواعد والفروع في المسائل الفقهية والعقدية لا تروق أو لا تتفق مع أمزجة الكفار أو قواعدهم التي وضعوها فيسارع هؤلاء إلى التلاعب بها بدعوى أن يتفق الإسلام مع ما القوم عليه من باطل تارة.
وبدعوى أن هذه القواعد والفروع مختلف في فهمها والأخذ بها، تارة أخرى، وعلى هذا كله أمثلة أكثر من أن تحصر ضربت عنها الذكر صفحاً طلباً للإيجاز:
"إن الأدب الدفاعي يمكن أن يحقق للأمة مرحلة التمييز نوعاً ما لكنه على كل حال يبقى عاجزاً عن البلوغ بها إلى مرحلة الرشد ... يمكن أن تكون مرحلة الأدب الدفاعي هي البداية والنهاية فهنا تكمن المشكلة وتحصل الخطورة" [كتاب الأمة الثامن: نظرات في مسيرة العمل الإسلامي للأستاذ عمر عبيد حسنة : 62].
د. معرفة واقع المخاطبين:
إن معرفة ما عليه الآخرون من طرائق العيش، والتفكير، والثقافة، والدين الذي يلتزمونه، ومبلغ ما هم عليه من علم مادي وحضارة مادية، إن معرفة ذلك كله أمر مهم للغاية، ويخطئ من يخاطبهم وهو في غفلة من ذلك.
وغياب عنه، إذ سيكون خطابه فتنة لبعضهم وانصرافاً وإعراضاً من بعضهم الآخر، وقلّ من سيستمع له ويأخذ عنه، لذلك لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً رضي الله عنه إلى أهل اليمن بين له حالهم بقوله: "إنك تأتي قوماً أهل كتاب ..."
هذا وهم عرب، وأصول معاذ رضي الله عنه يمنية، لكن لم يمنع هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيان بعض حالهم له، فكيف ونحن نرجو أن نخاطب قوماً دينهم مختلف، ولغتهم مختلفة، وثقافتهم بعيدة جداً عن ثقافتنا، وطرائق عيشهم مختلفة.
وأنماط التفكير كذلك مختلفة، وهناك حاجز كبير بيننا وبين أكثرهم سببه إرث المرحلة الاستخرابية "الاستعمارية"، وسببه أيضاً سيل الشبهات التي زرعها الكنسيون والمستشرقون في عقولهم، فينبغي ألا يخاطبهم إلا من كان عارفاً ما القوم عليه في جل أو كل الذي ذكرته آنفاً.
4. التقويم والضبط للمخاطَبين:
إن كثيراً من أنواع الخطاب الدعوي يساء تقويمها، خاصة من قبل العوام المتلقين، ويحدث من سوء التقويم جملة أخطاء منها:
أ. الإعجاب المفرط بمخاطِب ما:
وهذا الإعجاب من قبل المخاطَبين قد يسوق المخاطِبَ إلى الخروج عن علمه الذي يجيده وفنه الذي يتقنه إلى مجالات أخرى لا قبل له بها، وليست مما يجيده ويضبطه، ومع هذا فإن خطابه يُتلقى بالقبول الواسع وما ذلك إلا للإعجاب المفرط غير المنضبط بضوابط المنطق والعقل، وقديماً قالت العرب: "من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب":
"ثمة عناصر يقتصر نجاحها على أن تجيد خطاب الجماهير واستثارة اهتمامها، إلا أن زخم الخطاب الجماهيري قد يدفع ببعض هؤلاء إلى الولوج في دوائر أخرى، وقيمة كل امرئ ما يحسن".
ب. الخلط في المخاطِبين:
فيؤتى بواعظ ليتحدث في قضايا فكرية وثقافية شائكة، وهو لا يحسنها، ويؤتى بمفكر ليعظ الناس وليس هذا من شأنه فيخرج وعظه بارداً ضعيفاً، وقد كان فيما مضى من حال سلفنا أنه لا يعظ إلا قاصٌّ متمكن متخصص فإذا بنا اليوم تضعف هممنا وطرائق عملنا أن تكون كما كانت عند أسلافنا.
ج. تقويم المخاطِب بقدر انتشار مادته وتوزيعها:
فمخاطب العامة يختلف عن مخاطب الخاصة، فمن الطبيعي في شأن الأول أن تنتشر مادته انتشاراً كبيراً، وترتفع أرقام توزيعها وتتعدد طبعاتها، بينما من غير الطبيعي أن يحدث هذا لمخاطب الخاصة:
"فحجم الانتشار وأرقام التوزيع ـ على سبيل المثال ـ من أكبر معايير نجاح الخطاب المقدم للعامة، وإن كانت تؤثر فيه اعتبارات أخرى كالدعاية والخلفية عن المتحدث، بينما تقل قيمة هذا المعيار في تقويم الخطاب المقدم للخاصة.
ومنشأ الخلط أن نقوِّم الخطاب المقدم للعامة من خلال صرامة عقليتنا الفكرية، أو أن نقوم خطاب الخاصة من خلال الانتشار أو التأثير العاطفي.
إن استقرار الإيمان بالتخصص، وسعة المجالات، والفصل بين الحكم على ذوات الأشخاص وتقويم نتاجهم، إن ذلك سيعيننا على تجاوز كثير من إشكالات الخلط بين خطاب العامة والخاصة"( من مقال للدكتور محمد الدويش ).
خاتمة:
قد أتيت في هذا البحث ـ بإيجازـ على أهم ما في الخطاب الإسلامي من مظاهر الضعف، وذلك بعد أن أوردت شيئاً من حسناته وإيجابياته، ثم أتيت على أهم ما هو مأمول منه، وأزعم أن الخطاب الإسلامي لو بُذل له الوسع، وضُبطت مادته، وقُوم بموجب ضوابط الخطاب العصرية ووسائله المتنوعة المتجددة، أزعم أنه لو جرى عليه هذا الذي ذكرته لتضاعف انتشاره.
ولأقبل عليه الناس أشد من هذا الإقبال، ولا جرم في هذا إذِ الخطاب الإسلامي يستند إلى ركن شديد، ومرجعية شرعية منضبطة، وقواعد متسقة مع السلوك الحسن والخلق القويم وإرادة الخير للمجتمعات الإسلامية وغيرها، وما كان كذلك فهو جدير وحقيق أن ينتشر ويسود، ويتخطى الحواجز الموضوعة له والعقبات.
أسأل الله للجميع التوفيق، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
الكاتب: محمد بن موسى الشريف
المصدر: موقع يا له من دين